منوعة

الرسّام.. طبيب نفساني

كنّا أربعة على طاولةٍ واحدة: كوبان من الشاي، وقلقان، وجهاز تحكُّم يتيم يتنقّل بين أيدينا مثل قضية عائلية لم تُحسم. ضحكنا على مشهدٍ تلفزيوني، فصرخ الأب من الغرفة المجاورة كعادته: «ما عندكم مخ؟ ما تفهموا ولا تفكروا؟!».

لم يرد عليه أحد. ليس خوفاً، بل لأننا فهمنا الرسالة: الفرح ممنوع ما لم يصدر بختم الأب.

كبرنا…

ولم نكن ندري أن بعض الآباء يربّون أبناءهم ليكونوا طبعات باهتة من قسوتهم ليس إلّا، ثم يشكون من بهتان الطباعة!

كانت الأمّ تحاول ترقيع الشقوق بصوتها الناعم، لكن الصوت الناعم لا يقاوم منجنيقاً من الأوامر الصارمة. كنّا نعرف ترتيب البيت من ترتيب الأهواء. الأكبر مدلّل لأنه على صورة الأب. الأصغر مظلوم لأنه يشبه أمّه في طيبته، وأنا… كنتُ حيادياً جداً، لذلك كنتُ في مرمى الطرفين.

مرّت سنوات، وسافرتُ. وجمعتُ من الاغتراب ما لم أجمعه من الدفء. تعلّمتُ كيف أشتري وردة، وكيف أعتذر، وكيف أتكلم دون أن أُقاطع. وحين عدتُ، رمقني باندهاشٍ وهو يرى ملامحي أكثر ليونة، وهمستي أكثر دفئاً، فسألني باستنكار خافت: «ويش فيك وويش صاير لك؟!».

فأجبته وأنا أحدّق في عينيه التي لم تعتد النظر طويلاً: «مو صاير شيء يا يبه… بس قلبي تعافى شوي من القسوة التي كسرته، وصار يعرف يحبّ، مثل ما كنت أتمنى تحبّني في يوم».

قال أخي الصغير: «أبتِ، أريد أن أدخل قسم الرسم!».

فقال أبي: «إن دخلت قسم الرسم، سأرسم على جسدك شوارع بالعقال!»، فدخل بناء على رغبة أبيه الطب، وأصبح طبيباً نفسياً… يعالج أبناءً كبروا على القمع، ويربّتون على قلوبٍ لم تُربَّ إلا بالتوبيخ والتحكم!

أخبار ذات صلة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى