شوارع تفتقدُ هويّتها «الأسامي كلام»

وأنت تجول في شوارع عربية، من الرياض، إلى جدة، إلى القاهرة، وبغداد، ودمشق، وبيروت، وعمّان، وتقرأ أسماء الشوارع التي اختارت لها أمانات وبلديات العواصم أسماء أدباء وكُتّاب ومثقفين، تتلبسك حيرة وتنقدح في الذهن تساؤلات عن فقدان الهويّة الأدبية لهذه الشوارع التي تخلو من رابط بين الاسم والمُسمّى، فتطرق نافذة الذاكرة أغنية السيدة فيروز «أسامينا، شو تعبوا أهالينا تلاقوها، وشو أفتكروا فينا، الأسامي كلام، شو خص الكلام، عينينا هني أسامينا».
وفي قلب العاصمة المصرية (القاهرة) وبين أحيائها القديمة والحديثة، تمتد شوارع تحمل أسماء كتّاب وأدباء شكّلوا الوجدان الثقافي العربي، من نجيب محفوظ إلى عباس العقاد، ومن طه حسين إلى يوسف السباعي. غير أن المتجوّل في هذه الشوارع لا يجد سوى بقايا أسماء مطموسة على لافتات بالية، وأنشطة تجارية ومظاهر لا تمتّ للأدب والثقافة بصلة.
شارع نجيب محفوظ.. «البطل» الذي غاب عن الحكاية
يقع شارع نجيب محفوظ في منطقة مدينة نصر، ويفترض أن يخلّد اسم الأديب المصري الحائز على نوبل، لكن الواقع مختلف تماماً. تنتشر المحال التجارية، ومطاعم الوجبات السريعة، ومكاتب السيارات، في حين يغيب أي أثر بصري أو تذكاري يوحي بأن هذا الشارع يرتبط بصاحب ثلاثية القاهرة. لا مكتبة، ولا جدارية، ولا حتى لوحة تعريفية عن سيرته.
شارع عباس العقاد.. من الفكر إلى «الفاست فود»
واحد من أطول شوارع مدينة نصر وأكثرها ازدحاماً، يحمل اسم المفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد. ومع ذلك، فإن الشارع اليوم يشتهر بالمقاهي والمطاعم ومحال الملابس والعطور، في مشهد استهلاكي بحت. كثير من المارّة لا يعرفون من هو العقاد، أو لماذا سُمي الشارع باسمه.شارع طه حسين..
لا مكان لـ«الأيام»
في حي الزمالك الراقي، يوجد شارع طه حسين، عميد الأدب العربي. ومع أن المكان يحمل طابعاً أكثر هدوءاً، إلا أن النشاطات القائمة فيه لا تختلف كثيراً: مقار شركات سياحية، ومعارض سيارات، ومبانٍ دبلوماسية. لا وجود لرمزية ثقافية حقيقية، أو مركز يحمل اسم طه حسين أو يعرض أعماله.
شارع يوسف السباعي.. أدب غائب ومشاهد متناقضة
في منطقة الدقي، يُفترض أن يعبّر شارع يوسف السباعي عن حياة كاتب وروائي ترك بصمة في الأدب المصري. غير أن الشارع يعاني من العشوائية المرورية وكثافة المحال والمقاهي، دون أي رابط بالثقافة أو الأدب.
شارع «مالئ الدنيا وشاغل الناس» وجبات تنافس المكتبات
ربما لم يكن المتنبي في حاجة إلى إطلاق اسمه على شارع في الرياض أو بغداد، فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس، وكان ولم يزل منذ أكثر من ألف ومائة عام، وسيظل عنوان قصائد الفخر والرثاء والاعتداد بالذات؛ إلا أنه لو عَلِم بأن تاريخ (أبو الطيّب) سيعبث به تجار الاستهلاك بنشر المطاعم والمقاهي على جنباته لبعث رسائل احتجاجية من العالم الآخر، ولردد مجدداً «وَحالاتُ الزَمانِ عَلَيكَ شَتّى، وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ»، ولقسى على أهل هذا الزمان، أكثر من قسوته على كافور الإخشيدي، ولكرر بيته الشهير «جوعان يأكل من زادي ويمسكني، حتى يقال عظيم القدر مقصود».
شارع جرير «قُل للطلول سَقى أجواءك المَطَرُ»
لو سألنا الشاعر الأموي جرير بن عطية التميمي، عن أهوَل ما مرّ به، وأنساه نقائضه مع الفرزدق والأخطل لقال: الجحود والنكران، من أجيال تردّدُ أشعاري ولا تعرف مكانتي؛ ولاستعاد «أتصْحُو بَل فُؤادُكَ غَيرُ صاحِ، عَشِيَّةَ هَمَّ صَحبُكَ بِالرَواحِ، يَقولُ العاذِلاتُ عَلاكَ شَيبٌ، أَهَذا الشَيبُ يَمنَعُني مِراحي». ولأبدى استياءه من عدم وجود ما يدل عليه في شارع يحمل اسمه، ولعاد لرقدته الطويلة مردداً «ضاقَ الطَريقُ وَعَيَّ الوِردُ وَالصَدَرُ».
لماذا تغيب الهوية الثقافية عن شوارع الأدباء؟
يشير عدد من المثقفين إلى أن غياب الرؤية الثقافية ساهم في تفريغ هذه الشوارع من مضمونها الرمزي. نسمّي شارعاً باسم أديب، لكن لا نوظف ذلك بصرياً أو وظيفياً. لا مكتبات، لا معارض، لا ترويج للهوية الثقافية.
ولمواجهة هذا الانفصال بين الاسم والمضمون، يطرح عدد من المهتمين بالشأن الثقافي مجموعة من الأفكار التي يمكن أن تُعيد لهذه الشوارع بعضاً من هويتها الأصلية؛ من بينها، تثبيت لافتات تعريفية تشرح بإيجاز سيرة الأديب أو المفكر الذي يحمل الشارع اسمه، بما يمنح المارّة خلفية ثقافية ويحفز الفضول المعرفي. كما يمكن الاستفادة من المساحات العامة عبر إنشاء مكتبات صغيرة أو أكشاك لبيع الكتب، تحمل طابعاً بصرياً متسقاً مع شخصية صاحب الاسم، إلى جانب طلاء جداريات فنية مستوحاة من أعمالهم.
ويرى البعض أن إحياء هذه الأسماء لا يقتصر على البنية التحتية فقط، بل يجب أن يمتد إلى الفعاليات. فتنظيم أيام ثقافية أو مهرجانات سنوية تحمل اسم الكاتب أو الأديب، يمكن أن يسهم في إعادة ربط المكان بالرمزية الثقافية. كما يُقترح إشراك طلاب المدارس والجامعات وسكان الأحياء في مبادرات مجتمعية لإحياء الوعي بهذه الشخصيات، من خلال قراءات علنية، ومعارض فنية، ومسابقات أدبية تقام في الأماكن التي تحمل أسماءهم.
أخبار ذات صلة