
عربي ودولي
24
الأمم المتحدة
الدوحة – قنا
في لحظة تاريخية غيرت وجه العالم، بزغ ميثاق الأمم المتحدة قبل ثمانين عاما، بمثابة نجمة ساطعة في سماء شوهها دخان الحروب، فاتحا أبواب الأمل إلى عالم من الطمأنينة والاستقرار والأمان أمام مختلف شعوب الأرض، التي تعهدت بالاتحاد تحت راية السلام، لتنسج من أحلام الوحدة واقعا يزدهر بالعدل والتعاون.
لقد كان الميثاق جسرا للعبور فوق هاوية الصراعات، موحدا الأمم في سعيها لتحقيق الاستقرار والتنمية، فمن قاعات المناقشات إلى ميادين العمل الإنساني، تحولت الكلمات المكتوبة إلى أفعال وأنقذت أرواحا وأعادت بناء المجتمعات شعوبا وقبائل، مسهلة أمامها مختلف السبل والدروب لتتطلع للمستقبل بتفاؤل لا يتراجع ولا يتوقف، من أجل بناء عالم يتسع للجميع، وتحترم الكرامة الإنسانية في كل ركن من أركان الأرض.
ففي الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1945، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، اجتمع ممثلون لنحو 50 دولة في مدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية ليوقعوا على ميثاق الأمم المتحدة، وهي الوثيقة التي حملت في طياتها أملا جديدا لعالم مزقته ويلات الحروب، وتعهدا بألا يشهد العالم حربا مدمرة بهذا الحجم مرة أخرى.
واحتفاء بالذكرى الثمانين لتوقيع الميثاق، أقامت الجمعية العامة للأمم المتحدة احتفالا في مقر المنظمة الدولية بمدينة نيويورك في السادس والعشرين من يونيو الماضي مثل لحظة لإحياء روح سان فرانسيسكو واحتضان المثل التي وحدت البشرية في أحلك ساعاتها.
وخلال الحفل، استمع الحضور لكلمات من كل من رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأمين العام، ورئيس مجلس الأمن، ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ورئيس محكمة العدل الدولية، شددوا فيها على أهمية إعادة الالتزام بمبادئ الميثاق وسط تصاعد النزاعات وانتهاكات القانون الدولي، مؤكدين أن التعددية ما زالت السبيل الوحيد لحماية السلام والكرامة وحقوق الإنسان.
وقال فيليمون يانغ رئيس الجمعية العامة إن توقيع الميثاق مثل “نقطة تحول في التاريخ الحديث” بعد دمار الحربين العالميتين، وأرسى أسس نظام جديد متعدد الأطراف “من المفروض أن يرتكز على الحوار والتعاون”.
وأضاف أن الأمم المتحدة، وعلى مدى ثمانية عقود، كانت في صميم استجابة البشرية لأكبر تحدياتها، وصاغت أجندة عالمية تتطلع إلى “السلام والتنمية والكرامة، ليس كأحلام للبعض، بل كوعود للجميع”.
من جانبه، قال أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، إنه بعد مرور 80 عاما على توقيع الميثاق، يشهد العالم “اعتداءات على مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة لم يسبق لها مثيل”، حاثا جميع الدول الأعضاء على الالتزام بروح الميثاق ونصه “والمستقبل الذي يدعو لبنائه من أجل السلام والعدالة والتقدم، ومن أجل جميع شعوب الأرض”.
كما أكد غوتيريش أن الميثاق أتاح الأدوات اللازمة لتغيير المصائر، وإنقاذ الأرواح، وبث الأمل في أكثر بقاع العالم يأسا.
ويتألف ميثاق الأمم المتحدة من 19 فصلا تضم 111 مادة، ويبدأ الميثاق بديباجة ملهمة تتعلق بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وتعزيز العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ويرسم الميثاق من خلال فصوله، خارطة طريق للسلام، والعدالة، والتعاون، ويؤكد على مبادئ المساواة في السيادة، واحترام الالتزامات الدولية، وحل النزاعات بالوسائل السلمية، كما يحدد شروط قبول الأعضاء الجدد، وشروط تعليق العضوية أو طرد أي دولة تنتهك المبادئ.
وتحدد فصول الميثاق مهام واختصاصات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والأمين العام، أما الفصل السابع وهو أحد أهم فصول الميثاق، فيتعلق بالأعمال المتعلقة بالتهديدات ضد السلام، وعندما تفشل الوسائل السلمية، يمنح هذا الفصل مجلس الأمن صلاحية اتخاذ إجراءات صارمة، مثل العقوبات الاقتصادية أو التدخل العسكري، كما يعترف بحق الدول في الدفاع عن النفس إذا تعرضت لهجوم مسلح.
وتجدد دولة قطر في مختلف المناسبات التزامها الراسخ بروح ونص ميثاق الأمم المتحدة، وتؤكد حرصها على مواصلة الأمم المتحدة دورها كمحفل للحوار والوحدة في العالم المعاصر.
وحديثا، عبرت عن هذا الموقف مطلع يوليو الماضي، سعادة الشيخة علياء أحمد بن سيف آل ثاني، المندوب الدائم لدولة قطر لدى الأمم المتحدة، وذلك في بيان ألقته أمام الاجتماع الذي عقدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الثمانين لتوقيع ميثاق الأمم المتحدة، بنيويورك.
وأوضحت سعادتها أن الذكرى الثمانين لتوقيع الميثاق تمثل لحظة مهمة لتوحيد الجهود من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتعزيز التقدم الاقتصادي والاجتماعي لجميع الشعوب، مشددة على أن دور الأمم المتحدة بات أكثر أهمية وإلحاحا، في ظل مواجهة العالم اليوم، لأكبر عدد من النزاعات منذ عام 1945.
ولفتت إلى أن دولة قطر لطالما دافعت عن مركزية القانون الدولي ومبادئ الميثاق والحل السلمي للنزاعات واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها. وعلى مدار عقود، لعبت الأمم المتحدة دورا محوريا في حل النزاعات ومنع تصعيدها، وفي هذا السياق أطلقت أكثر من 70 عملية لحفظ السلام منذ عام 1948، مثل بعثاتها في لبنان وسيناء وقبرص والكونغو، وشارك في هذه العمليات مئات الآلاف من الجنود “القبعات الزرق”، وقد ساعدت في استقرار مناطق الصراع وإنقاذ ملايين الأرواح.
وساهمت المنظمة في إبرام اتفاقيات سلام تاريخية، مثل اتفاقية كامب ديفيد (1978) بين مصر وإسرائيل، واتفاقيات السلام في كولومبيا (2016)، كما دعمت جهود المصالحة في مناطق مثل رواندا والبوسنة بعد صراعات دامية. ومن خلال معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1970، لعبت الأمم المتحدة دورا حاسما في الحد من سباق التسلح النووي، مما ساعد في منع كارثة عالمية.
وفي مجال حماية حقوق الإنسان، كانت الأمم المتحدة صوتا للمستضعفين وملاذا للمحتاجين، وكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من إنجازاتها البارزة على هذا الصعيد، وهو وثيقة تاريخية وضعت معايير عالمية لحقوق الإنسان، ألهمت دساتير دول وأنظمة قانونية حول العالم، وشكلت أساسا لمحاسبة الدول على انتهاكاتها.
وخلال عمرها البالغ ثمانية عقود، قدمت الأمم المتحدة مساعدات إنسانية لملايين المتضررين من الحروب والكوارث الطبيعية في شتى بقاع المعمورة، وفي سياق التصدي لأزمة المناخ، أظهرت الأمم المتحدة ريادة إبداعية، ولعبت دورا متميزا في صياغة اتفاقية باريس للمناخ (2015)، وهي وثيقة تاريخية التزمت بموجبها الدول الأعضاء، بتقليل انبعاثات الكربون والحد من الاحترار العالمي إلى أقل من درجتين مئويتين.
وخلال أزمة كورونا كوفيد – 19، قادت منظمة الصحة العالمية، التابعة للأمم المتحدة، الجهود العالمية لتوزيع اللقاحات عبر مبادرة COVAX، التي وفرت مليارات الجرعات للدول الفقيرة.
وعلى الرغم من نجاحاتها المتعددة، لم يخلُ سجل الأمم المتحدة من الانتقادات، فقد واجهت في كثير من المحطات انتقادات، مثل محدودية تأثيرها في بعض النزاعات الكبرى، وبطء اتخاذ القرارات بسبب الخلافات بين الدول الأعضاء، ومع ذلك، تستمر المنظمة في التكيف، مع التركيز على قضايا المستقبل مثل الأمن السيبراني، والهجرة المناخية، وأخطار وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
وبين النجاحات والإخفاقات، ظلت الأمم المتحدة على مدار ثمانين عاما، بمثابة قلب نابض للأمل والتعاون العالمي، وقد تمكنت من إنقاذ الملايين من براثن الأزمات والمحن والكوارث والصراعات الحروب والفقر والأمراض، رافعة راية الحقوق والحريات فوق مراكب الأمل، وحافظت على دورها كبوصلة تهدي سفينة الإنسانية وتحرك دفتها وأشرعتها في مواجهة رياح الأزمات وعواصف المحن وأمواج الاضطرابات، كي يتحول السلام المنشود للبشرية والتعاون والسلام بين شعوبها، من مجرد حلم إلى واقع يتفيأ ظلاله ويستنشق عبيره كل إنسان على ظهر هذا الكوكب.
مساحة إعلانية